فصل: بابُ الإكراهِ على ما يجب عتقٌ أو طلاقٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الإكراهِ على ما يجب عتقٌ أو طلاقٌ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَعَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ، وَقَبْضِ الْعَبْدِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ شِرَاءَ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ، وَبِالْمِلْكِ يَتِمُّ شَرْطُ الْعِتْقِ فَاسِدًا كَانَ السَّبَبُ، أَوْ صَحِيحًا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ، فَيَعْتِقُ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ مِقْدَارَ الْقِيمَةِ، وَقَدْ أُدْخِلَ فِي مِلْكِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا يُعَدُّ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ تَلَفٌ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرِهِ إكْرَاهٌ عَلَى هَذَا الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ الْعِتْقِ فَأَمَّا السَّبَبُ، وَهُوَ الثَّمَنُ السَّابِقُ، فَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِعْتَاقِ، وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وُجِدَتْ فِي الْيَمِينِ دُونَ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا، وَقَضَى الْقَاضِي بِالْعِتْقِ، ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْحُكْمَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدِي، وَلِهَذَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ، فَكَذَا فِي الْإِكْرَاهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ عَلَى الشَّرْطِ لِحُصُولِ تَلَفِ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرِهُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِكْرَاهِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّلَفُ بِعَيْنِهِ.
وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَعَلَى قَبْضِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَاشْتَرَاهُ، وَقَبَضَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ فَاسِدٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمُشْتَرِي لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَيَبْطُلُ عَنْهُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ مُكْرَهًا، وَالْتِزَامُ الْمَالِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِقَرَابَتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرَهِ إكْرَاهٌ عَلَى تَحْصِيلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الْعِتْقُ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَالْمَالِكُ هُنَا مُتَمِّمٌ عَلَيْهِ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ إنَّمَا يَعْتِقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمِلْكِ جَمِيعًا، وَالْحُكْمُ مَتَى تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ، وَصْفَيْنِ يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ نَاوِيًا عَنْ كَفَّارَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُعْتِقًا مُتَمِّمًا لِعِلَّةِ الْعِتْقِ، فَهُنَا الْمُكْرَهُ يَكُونُ مُتَمَّمًا عَلَيْهِ الْعِتْقُ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِعَيْنِهِ قُلْنَا نَعَمْ الْمِلْكُ مُتَمِّمٌ عَلَيْهِ الْعِتْقَ، وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُشْتَرِي، وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ، فَالشِّرَاءُ لَيْسَ بِمُتَمِّمٍ عَلَيْهِ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ صُنْعِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إتْلَافًا فِي حَقِّهِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي الْكَفَّارَةِ، فَالشِّرَاءُ مُتَمِّمٌ لِلْعِلَّةِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالْقَرِيبِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا، وَالثَّانِي أَنَّ عِتْقَ الْقَرِيبِ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى بِهِ الْكَفَّارَةَ، وَقَعَ عَمَّا نَوَى، وَلَمْ يَكُنْ مُجَازَاةً لِلْقَرَابَةِ، فَتَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا هُنَا، فَالْمُكْرَهُ مَا نَوَى شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْمُجَازَاةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى شَيْئًا آخَرَ يَصِيرُ طَائِعًا، وَالْمُكْرِهُ إنَّمَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ، فَيَكُونُ هَذَا إكْرَاهًا عَلَى إقَامَةِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِهِ، أَوْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى شِرَاءِ أَمَةٍ قَدْ، وَلَدَتْ مِنْهُ، أَوْ أَمَةٍ مُدَبَّرَةٍ إنْ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالِاسْتِيلَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَاسْتُوْضِحَ بِفَصْلِ الشَّهَادَةِ إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ هِيَ قِيمَتُهُ، وَالْبَائِعُ يَدِّعِي الْبَيْعَ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَالَ إنْ مَلَكْتَهُ، فَهُوَ حُرٌّ، فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ رَجَعَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ، فَهُوَ حُرٌّ لَا بِشِرَائِهِ، وَالشُّهُودُ مَا أَثْبَتُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى دَخَلَ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ، فَأُدْخِلَ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُدْخَلٌ لَا دَاخِلٌ، فَلَا يَصِيرُ الشَّرْطُ بِهِ مَوْجُودًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ: إنْ صِرْت فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ، فَحَمَلَهُ الْمُكْرِهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الدَّارَ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا حَصَلَ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ لَا بِحُصُولِهِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ قَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ لَا مِنْ مُوجِبَاتِ دُخُولِ الدَّارِ، فَالْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى مَنْ أَدْخَلَهُ الدَّارَ.
وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ، فَأُكْرِهَ عَلَى تَزَوُّجِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا طَلُقَتْ، وَلَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا بِسَبَبِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ إنَّمَا أَكْرَهَهُ عَلَى التَّزَوُّجِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِالتَّزَوُّجِ مَا يُعَادِلُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ قَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إنْ شَجَّنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، فَشُجَّ، إنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ، وَالْمَرْأَةُ تَطْلُقُ، وَعَلَى الشَّاجِّ أَرْشُ الشَّجَّةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ شَيْءٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُلِّ مُخَالِفٌ، وَلَكِنَّ مِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِشْهَادَ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى يُحَصِّلَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي يَدِ هَذَا الرَّجُلِ، أَوْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَفَعَلَهُ، فَطَلَّقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ، وَالطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ بِهَا عَلَيْهِ، وَصِحَّةُ تَمْلِيكِهِ مِنْ غَيْرِهِ تَجْعَلُهُ فِي يَدِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي هَذَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَفْوِيضِ الْعِتْقِ إلَى الْغَيْرِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَغْرَمَ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى السَّبَبِ الْمُتْلِفِ، فَإِنَّ السَّبَبَ قَوْلُ الْمَجْعُولِ إلَيْهِ لِلْعَبْدِ أَنْتَ حُرٌّ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِهَذَا تَقَدَّمَ التَّفْوِيضُ مِنْ الْمَالِكِ، فَالْمُكْرِهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْوِيضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَصْلُ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ عَبْدِهِ فِي الْعِتْقِ فِي يَدِ فُلَانٍ، أَوْ أَمْرَ امْرَأَتِهِ فِي الطَّلَاقِ، ثُمَّ أَعْتَقَ فُلَانٌ الْعَبْدَ، وَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ التَّفْوِيضُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَنِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي غَرِمَ لِامْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إكْرَاهٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعِتْقِ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ بِعَيْنِهِ، فَيَصِيرُ بِهِ مُتْلِفًا عِنْدَ وُجُودِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُفَوِّضِ إلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَوْقَعَهُ كَانَ ضَامِنًا، وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِإِيقَاعِهِ إنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا بِإِكْرَاهِهِ عَلَى جَعْلِ ذَلِكَ فِي يَدِهِ، وَالْأَخْذُ بِالْقِيَاسِ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى إعْتَاقِهِ كَانَ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا، فَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى جَعْلِ الْعِتْقِ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ، فَأَعْتَقَهُ الْمُكْرَهُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ، وَالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُكْرَهَ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ، فَيَتَعَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَى مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرَرُ، وَالشَّاهِدُ مُحْتَسِبٌ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَلَا تَتَعَدَّى شَهَادَتُهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ إلَى غَيْرِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ يُجْعَلُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْهِبَةِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً عَلَى التَّسْلِيمِ: يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ مُخْبِرٌ عَنْ تَفْوِيضٍ قَدْ كَانَ مِنْهُ، وَالْإِيقَاعُ مِنْ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَبَرِ بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِمَا ثَبَتَ بِإِخْبَارِ الشَّاهِد، فَأَمَّا الْمُكْرِهُ، فَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى إنْشَاءِ التَّفْوِيضِ، فَيُمْكِنُ جَعْلُ إيقَاعِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ مُتَمِّمًا لِمَا أَكْرَهَهُ الْمُكْرِهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ هُوَ مُتْلِفًا.
وَفِي الْكِتَابِ اسْتَشْهَدَ لِإِيضَاحِ هَذَا الْفَرْقِ، فَقَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ، وَقَالُوا شَهِدْنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا غُرْمٌ، وَلَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْإِحْصَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَأَنَّهُ لَا رَجْمَ، وَلَكِنِّي أَرْجُمُهُ، وَأَكْرَهَ النَّاسَ حَتَّى رَجَمُوهُ كَانَ ضَامِنًا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ، وَالْإِكْرَاهِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِشْكَالُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَضْمَنُ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ رَجْمًا عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ، فَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرَهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، فَبِالْحِجَارَةِ أَوْلَى، فَإِنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ عِنْدَهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لِدَمِهِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الزِّنَا، فَإِنَّ عِنْد ظُهُورِ إحْصَانِهِ إنَّمَا يُرْجَمُ لِزِنَاهُ لَا لِإِحْصَانِهِ، فَيَصِيرُ هَذَا السَّبَبُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ بَعْضَ الرَّجْمِ قَائِمٌ مَقَامَ إقَامَةِ الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ مَا رَجَمَهُ الْقَاضِي بَعْضَ الرَّجْمِ لَوْ بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاضِي، وَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ ثَبَتَ مَعَ الشُّبُهَاتِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ حُرًّا فَفَعَلَ، ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَتَقَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا حَصَلَ بِاعْتِبَارِ صُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، وَهُوَ قَبُولُ الشِّرَاءِ، وَالْهِبَةِ، أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعِتْقِ، فَيَكُونُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ، وَرِثَ مَمْلُوكًا، فَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ لَا يَحْصُلُ الْإِتْلَافُ بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ انْحِلَالِ الْيَمِينِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْيَمِينِ، أَوْ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ إكْرَاهًا عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّلَفُ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: الْمُكْرَهُ ضَامِنُ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ الَّذِي وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَنْزِلُ الْعِتْقُ بِتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِ الْعِتْقِ، وَقَدْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَرِثهُ، فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ، وَرِثَ مَمْلُوكًا يَعْتِقُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهِ قَصَدَ إتْلَافَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِكْرَاهِ.
.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ شِئْت، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَشَاءَ الْعَبْدُ عَتَقَ، وَغُرِّمَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ مَشِيئَتِهِ عَتَقَ بِقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَدْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ دَخَلَهَا الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ الْعِتْقِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، وَإِنْ شَاءَ الْعِتْقَ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ فِيهِ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْعِتْقِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ، فَالْبَيْعُ لَا يَتِمُّ بِهِ، وَحْدَهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ، وَبِالْمُشْتَرِي، وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيهِ مِنْهُ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِهَذَا الطَّرِيقِ رَاضِيًا.
وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ صَلَّيْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ إنْ أَكَلْت، أَوْ شَرِبْت، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ صَنَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ، وَيُغَرَّمُ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ، فَرِيضَةٍ لَا يَجِدُ الْمُكْرَهُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا يَصِير رَاضِيًا بِالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ التَّلَفَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَيَخَافُ الْعُقُوبَةَ بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، فَيَكُونُ هُوَ مُضْطَرًّا فِي الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْمُضْطَرُّ لَا يَكُونُ رَاضِيًا، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَكَلْت، أَوْ صَلَّيْتِ الظُّهْرَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ كَانَ الزَّوْجُ، فَارًّا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ لَهُ فُلَانٌ: إنْ تَقَاضَيْت دَيْنِي الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، أَوْ أَكَلْت طَعَامَ كَذَا لِطَعَامٍ خَاصٍّ بِعَيْنِهِ، أَوْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ، فَأَنْتِ حُرٌّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ فَعَلَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلَ بُدًّا، فَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ رَاضِيًا بِالْعِتْقِ، وَيَخْرُجُ الْإِتْلَافُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِامْرَأَتِهِ: إنْ تَقَاضَيْت دَيْنَك الَّذِي عَلَى فُلَانٍ، فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ يَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا انْعِدَامُ الرِّضَا مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْفُرْقَةِ لِيَصِيرَ الزَّوْجُ، فَارًّا لَا الْإِلْجَاءُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهَا بِالْحَبْسِ حَتَّى سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ كَانَ الزَّوْجُ، فَارًّا؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَكَذَلِكَ الرِّضَا يَنْعَدِمُ مِنْهَا إذَا كَانَتْ تَخَافُ هَلَاكَ دَيْنِهَا عَلَى فُلَانٍ بِتَرْكِ التَّقَاضِي، فَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِلْجَاءُ، وَالضَّرُورَةُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ لَا انْعِدَامَ الرِّضَا مِنْ الْمُكْرَهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّق الْإِلْجَاءُ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ بِتَرْكِ الْفَرِيضَةِ، فَأَمَّا خَوْفُهُ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ، فَلَا يُوجِبُ الضَّرُورَةَ، وَالْإِلْجَاءَ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ شَيْئًا.
.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ قَتْلًا خَطَأً، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إلَى الْقَاضِي، فَأَكْرَهَ الْقَاضِي الْمَوْلَى عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بِالْإِلْجَاءِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، أَوْ مُسْتَهْلِكًا لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ، فَيَأْخُذُهَا الْمَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ، وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّلَفَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا التَّهْدِيدِ، وَيَغْرَمُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مُلْتَزِمًا لِلدِّيَةِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْلِكًا- لِلرَّقَبَةِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ.
.
وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى قَتَلَ عَبْدَهُ عَمْدًا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، فَصَارَ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ بِالْإِلْجَاءِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ مِلْكُهُ، فَبِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ يُخْلِفُهُ فِي عِوَضِ نَفْسِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُورِثَ، وَيَبْطُلُ حَقُّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِمْ، فَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ غَيْرُ صَالِحٍ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ إكْرَاهُهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُلْجَأً بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، فَكَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِالْتِزَامِ الدِّيَةِ لِأَجْلِ الْإِكْرَاه بِالْحَبْسِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ لِلِاسْتِهْلَاكِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.